روضة الصائم

الدعاوى الحدية «8»

23 مايو 2019
23 مايو 2019

فضيلة الشيخ زهران بن ناصر البراشدي -

قاضي المحكمــــة العــليا -

أقر بعين لإنسان، ثم ادعاها، لا تسمع دعواه إلا أن يدعي حدوث تلقيها منه بعد الإقرار وتذكر البينة حدوث تلقي الملك منه، ولو أخذت منه ببينة ثم ادعاها هل يحتاج إلى ذكر التلقي؟ وجهان.

أحدهما: نعم؛ لأنه صار مؤاخذًا ببينة المدعي، كما لو أقر.

ثانيهما: لا، كالأجنبي، ولا خلاف أنه لو ادعى عليه أجنبي وأطلق، سمعت.

إنسان في يده دار، فأقر بها لرجل، ثم جاء آخر يدعيها؛ فإنه يدعي على المقر له، وهل تسمع دعواه على المقر بالقيمة أم لا؟ إن قلنا: لو أقر له بعدما أقر للأول: يغرم قيمتها، تسمع دعواه عليه، ويحلفه؛ رجاء أن يُقر فيغرم.

وإن قلنا: لا يغرم: لا تسمع دعواه عليه؛ لأنه لا فائدة له فيه.

ولو باع من رجل شيئًا، ثم قال: كنت قد بعته من فلان، أو غصبته منه: لا يقبل قوله في حق من باع منه، وهل يغرم قيمته لمن أقر أنه باع منه؟ الوجهان.

ومنهم من قال: يغرم قولًا واحدًا؛ لأنه فوَّت عليه حقه بفعله وتصرفه؛ حيث دفعه إلى الآخر.

وفي المسألة الأولى: لم يتصرف، بل أخبر عن سببه بقوله، ولا أثر لقوله في ملك الغير.

ولو جاء أحد بعدما باعه، وادعى تلك العين، يدَّعي على المشتري، هل له أن يدعي القيمة على البائع؟

إن قلنا: لو أقر يغرَّم القيمة: له أن يدعي عليه؛ وإن قلنا: لا يغرَّم فلا.

هذا إذا باع العين، ثم جاء آخر يدَّعيها: لا تسمع دعواه على من انتزعت من يده إلا بالبينة. وإن أخذت منه بنكوله ورد اليمين: هل تسمع دعوى الثاني عليه بالقيمة؟ إن قلنا: النكول ورد اليمين كالبينة: لا تسمع.

وإن قلنا: كالإقرار: فهو كما لو أقر للأول، هل تسمع دعوى الثاني عليه؟ فعلى قولين.

لو شهد شاهدان لرجل ثم قال المدعي بعده: صرفت شاهديَّ عن شهادتهما هذه بطلت الشهادة ولا يصح الحكم بها؛ لأن صحة الشهادة تفتقر إلى طلب المدعي لها فلا بد من المقام على الطلب.

يؤكده أن الشاهد لو صرف نفسه عن الشهادة لم يجز القضاء بشهادته كذلك إذا صرفه عنها المشهود له بها، فإن عاد المدعي، وأقام هذا الشاهد ثانيًا قبلت الشهادة لأنه لم يكذبها، وإنما صرف نفسه عن إقامتها فإذا أعيدت ثانيًا لزم قبولها.

لو باع شيئًا، ثم قال: بعته وأنا لا أملكه ثم ملكته الآن بإرثٍ من فلان المتوفى فإن قال حين باع: إنه ملكي لم تسمع دعواه ولا بينته لأنه سبق من إقراره ما هو تكذيب لبينته وإن لم يحصل منه ما هو صريح في أنه ملكه وإنما قال: بعتك هذا الشيء، بكذا ثم ادعى ذلك تسمع دعواه فإن كانت له بينة حكم له بها، وإن لم تكن بينة حلف له المشتري لقد باعه وهو ملكه لأنه لم يحصل من إقراره ما يكون تكذيبًا لدعواه وبينته.

وكذلك قالوا: لو ادعى أن المبيع كان وقفًا عليه، ولم يعلم هو لا تسمع دعواه ولا بينته.

وقيل: تسمع دعواه وبينته؛ لأن الإنسان قد يبيع ملكه وغير ملكه وقد يبيعه ولا يعلم الوقفية ثم يعلم.

إذا أقر أنه وهب وأقبض الهبة أو رهن وأقبض أو أنه قبض المبيع أو أجر المستأجر ثم أنكر ذلك وسأل إحلاف خصمه ففيه روايتان إحداهما: لا يستحلف وهو قول أبي حنيفة ومحمد لأن دعواه تكذيب لإقراره فلا تسمع، كما لو أقر المضارب أنه ربح ألفا ثم قال: غلطت ولأن الإقرار أقوى من البينة.

ولو شهدت البينة فقال: أحلفوه لي مع بينته لم يستحلف كذا ههنا والثانية: يستحلف وهو قول الشافعي وأبي يوسف لأن العادة جارية بالإقرار قبل القبض فيحتمل صحة ما قاله فينبغي أن يستحلف خصمه لنفي الاحتمال.

ويفارق الإقرار البينة من وجهين أحدهما: إن العادة جارية بالإقرار بالقبض ولم تجر العادة بالشهادة على القبض قبله لأنها تكون شهادة زور.

قلت: [الباحث] معنى ذلك أن المقر لو ادعى عدم القبض وقال لي بينة أني لم أُقبِضه المبيعَ أو الرهنَ أو الهبةَ مثلا أو لم يقبضه مني فالبينة هنا بعدم القبض بينة نافية للقبض وتسمى بينة تهاتر وحكمها حكم بينة الزور فليتنبه.

ففي النيل وشرحه: وترد من متهاتر، ويقال له: النافي، وهو من شهادته نفي، وتسمى شهادة التهاتر، وفي الأثر: لا تجوز شهادة التهاتر مثل أن يقول: ليس لهذا الرجل على هذا الرجل كذا وكذا، أو ليس عليه شيء مما يدعيه، أو لم يبع له كذا، أو لم يهب له، أو لم يقضه دينه، أو لم يفعل كذا، وهي جزء من علم الغيب.

وفي السؤالات: لا تجوز شهادة التهاتر إلا في أربعة أوجه؛ لم يكن لهذا الرجل من شيء إلا إن كان مما لم نعلم، وقسم هؤلاء الرجال هذا الجنان إلا هذه الشجرة لم تدخل في القسمة، وباع هذا الرجل لهذا الرجل هذا الجنان إلا هذه الشجرة لم تدخل في البيع، وباع هذا الرجل لهذا الرجل هذا الشيء وفيه هذا العيب ولم يخبره به.

الوجه الثاني: إن إنكاره مع الشهادة طعن في البينة وتكذيب لها وفي الإقرار بخلافه ولم يذكر القاضي في المجرد غير هذا الوجه وكذلك لو أقر أنه اقترض منه ألفا وقبضها أو قال: له عليَّ ألف ثم قال: ما كنت قبضتها وإنما أقررت لأقبضها فالحكم كذلك ولأنه يمكن أن يكون قد أقر بقبض ذلك بناء على قول وكيله وظنه والشهادة لا تجوز إلا على اليقين.

فأما إن أقر أنه وهبه طعامًا ثم قال: ما أقبضتكه وقال: المتهب بل أقبضتنيه فالقول قول الواهب؛ لأن الأصل عدم القبض وإن كانت في يد المتهب فقال: أقبضتنيها فقال: بل أخذتها مني بغير إذني فالقول قول الواهب أيضا؛ لأن الأصل عدم الإذن وإن كانت حين الهبة في يد المتهب لم يعتبر إذن الواهب وإنما يعتبر مضي مدة يتأتى القبض فيها وعلى من قلنا القول قوله منهما اليمين لما ذكرنا».

قلت: والقول بأن: القول قول الواهب بعدم القبض مع كون الهبة في يد الموهوب له فيه بعدٌ كبيرٌ ومخالف للقاعدة العامة «القول قول من في يده الشيء» وكون الأصل عدم القبض إن كانت الهبة في يد الواهب، أمَّا كونها في يد الموهوب له فقد عارض الأصلَ الظاهرُ وهو: كون الشيء الموهوب بعد الهبة في يد الموهوب له فلينظر فيه بإمعان.